كان الإمام الصادق (عليه السلام) إماما في المذهب وحكيما وفيلسوفا وأديبا في عصره، وكانت علوم الدين والحكمة والفلسفة والأدب تدرس في مدرسته.
وللإمام نظرية في الفرق بين الفلسفة والحكمة، مر عليها حتى الآن ما يزيد على ألف ومائتي سنة ظهر في أثنائها عشرات من الفلاسفة والحكماء في الشرق والغرب، ولكن أحدا منهم لم يضع تعريفا لكل من الحكمة والفلسفة أجمع من التعريف الذي وضعه الإمام الصادق (عليه السلام).
ففي رأي فلاسفة الإغريق القدماء أن كل معرفة تدخل في نطاق الفلسفة.
وفي رأي رجال مدرسة الإسكندرية، التي كان لها شأن في تقدم العلوم والفلسفة، أن الحكمة والعلم شئ واحد، بدليل أنهم كانوا يطلقون اسم الحكمة على كل علم وفن، بما في ذلك الطب الذي كان يعد بابا من أبواب الحكمة(1).
وعند القدماء أن الفلسفة هي ينبوع تتفرع منه جميع العلوم، ولهذا سموها بعلن العلوم، لأن الفيلسوف كان متضلعا من جميع علوم زمانه، في حين أن الطبيب مثلا لم يكن يدعي الإلمام بالفلسفة.
ويقول الأديب الفيلسوف الفرنسي المعاصر (جان دولا كروا) إن اليونان كانت في القديم تعد الأدب والفن من أبواب الفلسفة، وإن الشعر والموسيقى والرسم والنحت وصنع التماثيل تستلهم صورها وزبدتها من الفلسفة. وفي عهد متأخر، فصل الأدب والفن عن الفلسفة.
ولأن العلوم الأساسية جميعا كانت داخلة في نطاق الفلسفة ومتفرعة منها، فلم تكن ثمة ضرورة للتفريق بين العلم والحكمة.
ساد هذا التفكير إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام) الذي وجده تفكيرا قاصرا، فوضع تعريفا من شأنه تحديد إطار مستقل لكل من العلم والفلسفة، فيتميز أحدهما عن الآخر.
صحيح أن للعلم في يومنا الحاضر تعريفا جامعا يحدد وظائفه ومجالاته، ويقرر له الاستقلال عن الحكمة, ولكن مناداة الصادق (عليه السلام) في عصره باستقلال العلم عن الحكمة كانت دعوة ثورية بمعنى الكلمة بمقاييس تلك الأيام.
وقد قسم الصادق (عليه السلام) نظريته بشأن تعريف العلم والفلسفة إلى شقين، فقال في الشق الأول إن العلم يوصل المرء إلى نتيجة واقعية حتى ولو كانت صغيرة ومحدودة ولكنها نتيجة حقيقية فعلا، أما الفلسفة فلا توصله إلى نتيجة ما.
وبهذا التعريف أصدر الصادق (عليه السلام)حكما قاطعا واضح السمات على حقيقة الفلسفة وحصيلة من يشتغلون بها على مدى العمر.
وبعبارة أخرى إن الصادق (عليه السلام) استدار وكأنه يخاطب المشتغلين بالفلسفة في العالم وقال لهم: إن أبحاثكم ومجادلاتكم بعيدة عن الحقيقة والواقع، فلا أنتم بها تنتفعون، ولا تنفعون غيركم، ولا فائدة من تحصيلها سواء لكم أو لغيركم.
والمعروف في تاريخ الفلسفة أن الذين أنكروا نظريات الفلاسفة أو شككوا فيها عرضوا أنفسهم لعدواة أولئك الفلاسفة وأتباعهم، ولو استخف أحد بصاحب أرض أو ضيعة ما لجلب على نفسه عداء هذا السيد، تماما كما لو استخف بثقافة مثقف أو رأي مفكر، لأن كل صاحب فكر أو ثقافة أو علم فخور بما عنده، ولا يرتضي أن يلقى بضاعته استخفافا من الغير وفي التاريخ رجال وصفوا بالعدل والحق، ولكنهم ضاقوا بكل من حاول الاستخفاف بقدرهم العلمي.
مثال ذلك أن مالكا بن أنس، مؤسس المذهب المالكي من مذاهب السنة، وأحد الأئمة الأربعة في الدين الإسلامي مع الشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل كان معروفا بزهده وعلمه وتقواه في المدينة، فلما شاعت نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن الفلسفة وعدم جدواها، قصده واحد من تلاميذه وأصحابه الأقربين، وهو إبراهيم الغزي، وقال للإمام مالك إن ما يدرسه من الحكمة والفلسفة عديم الجدوى، فتألم مالك ـوهو من هو ثقة وعلما وفضلاـ من تجريح الغزي له واستخفافه بعلمه وفضله، وامتنع ـ كما تقول الرواية ـ عن مقابلته إلى يوم وفاته. وقد وقعت وفاة مالك بن أنس في سنة 179 للهجرة عن عمر يناهز 86عاما.
فإذا كان الإمام التقي (مالك بن أنس) قد ساءه أن يستخف أحد بفضله أو يقلل من أهمية علمه، فكيف سائر الناس؟
وقد اعترض الفيلسوف الفرنسي المعاصر (جان دولا كروا) على نظرية الصادق (عليه السلام)، وقال إن نظرية الصادق (عليه السلام) كانت تسوغ في الأذن لو أنه قال إن الفلسفة لا جدوى منها اللهم إلا إذا وطأت للعلم وكانت تميهدا له ومقدمة، ومتى أفضت الفلسفة إلى العلم، كان جدواها كبيرة ونفعها جزيلا.
فمن رأي هذا الباحث الفرنسي أن الفلسفة بمفردها عديمة الجدوى، لأنها كالنظرية المجردة التي لا تفضي إلى شئ، أما إذا أفضت إلى العلم حيث التجربة والتطبيق فعندئذ تثبت جدواها العملية ويؤكد التطبيق صدقها.
وهناك معادلات وقوانين علمية طلع بها علماء بارزون، ولكنها بقيت معادلات وقوانين مجردة لا نفع منها إلى أن دخلت مرحلة التطبيق العلمي.
وها قد انقضى حوالي أربعمائة سنة على القوانين الفلكية التي انتهى إليها العالم الألماني (كبلر) بشأن حركة السيارات حول الشمس، وانقضى ما يقرب من ثلاثمائة سنة على قانون الجاذبية الذي اكتشفه (نيوتن) ولكن أحدا من علماء الفيزياء والفلك لم يحاول أو يشكك في صحة هذه القوانين الثابتة، إلى أن أطلق الروس أول سفينة فضائية في عام 1957، فتحققت بفضلها قوانين كبلر ونيوتن التي استعين بها في تنظيم هذه الرحلة الفضائية، وازداد انتفاع الإنسان بها في إطلاق المحطات الفضائية والأقمار الصناعية وتثبيتها في الجو، للاستعانة بها في الاتصالات اللاسلكية والبث التلفزيوني في أنحاء العالم، ولمتابعة التغييرات الطارئة في الجو من حرارة وبرودة، ومعرفة اتجاهات الرياح والأعاصير والأمطار والثلوج، والتقاط صور جغرافية للكرة الأرضية.
وكانت الحكمة من جملة الدروس التي يعلمها الإمام الصادق (عليه السلام) في مدرسته، مما أثار في الخاطر سؤالا هو: كيف يقوم الصادق (عليه السلام) بتدريس الحكمة في مدرسته في حين أنه يقول بعدم جدواها وفائدتها؟ وكيف يحمل طلابه، وهو الإمام والقائد الديني المترفع عن الزلل، على دراسة مادة يرى فيها أنها مادة لا تفيد في الحياة العملية؟
ولا بد للرد على هذا التساؤل من النظر إلى الشق الثاني من نظرية الإمام (عليه السلام) بشأن العلم والحكمة، كما لابد أن آراء الصادق (عليه السلام) بشأن الحكمة والعلم لا تنصرف إلى الدين أو المذهب، فالذي لاشك فيه أن الحقيقة في نظر الإمام (عليه السلام) هي الله وحده، وهي حقيقة ينبغي تنزيهها عن كل نقاش.
يقوم الشق الثاني من نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) على محور الحكمة والعلم، وفيه يقول إن العلم لا ينظر إلى حقيقة مطلقة، ولكن الفلسفة قادرة على ذلك.
جاء في الشق الأول من نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) إن العلم يميط اللثام عن الحقائق حتى ولو كانت صغيرة، فكيف يقول في الشق الثاني من نظريته بأن العلم لا ينظر إلى حقيقة مطلقة، بينما الفلسفة قادرة على ذلك؟ أليس هناك تعارض بين هاتين النظرتين؟
يقول الصادق (عليه السلام) إن العلم يكشف الحقيقة، ولكنه إن عجز عن كشف الحقائق الكبرى فلا يعجزه أن يدرك الحقائق الصغيرة المحدودة. ومع ذلك، يحدث أحيانا أن يعجز العلم عن إدراك كنه الحقيقة بسبب وجود تلك الحقيقة وجودا مادياً.
وللتمثيل على هذا ذلك نقول إن العين ترى كل شئ، ولكنها مع ذلك لا ترى نفسها مع أنها موجودة وتؤدي وظيفتها دون أن تدرك ما هو الهدف من مشاهدتها للأشياء وما هي الفائدة من ذلك.
أما الفلسفة، فإنها وإن لم تصل إلى حقيقة قاطعة، فهي تتطلع إلى معرفة الحقيقة المطلقة، وبالتالي معرفة سبب خلق العالم والبشر، وكنه الخالق، ومصير الإنسان، ونهاية العالم.
وقد مر على هذا القول اثنا عشر قرنا، وما زال إلى يومنا الحاضر قولا سديدا في التفرقة بين العلم والفلسفة، فالعلم عاجز إلى يومنا الحاضر عن معرفة الحقيقة المطلقة وتبين نهاية المطاف، وهو لا يعرف من أين تجئ الحقيقة ولا إلى أين تذهب. صحيح أن العلم ميزان دقيق يزن كل شئ، ولكن حيلته بعد كل الجد والبحث تقف عاجزة أمام الحقيقة المطلقة. أما الفلسفة فقادرة على الرد على هذه التساؤلات وتوضيح العلل والأهداف، والبحث في خاتمة المطاف، على الرغم من أن الفلسفة لم تصل إلى حقيقة واحدة في كل تاريخها الطويل.
يلوح من هذا التعريف أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يضع الحكمة في منزلة مقدمة على العلم، لأن العلم لا يستهدف الوصول إلى الحقيقة المطلقة، في حين أن الحكمة تهدف إلى ذلك وتجتهد في بلوغه، وما الحقيقة المطلقة إلا الله جل جلاله.
فبعد ما تفرغ الفلسفة من تناول القضايا الهامة، تصل إلى السؤال الجوهري، وهو: ما هي حقيقة الله؟ وما هو الهدف من الخليقة؟ وما هو مصير هذا العالم؟
ويتحصل من هذا أن الصادق (عليه السلام) كان يرى أن للحكمة فضلا في هداية الإنسان إلى معرفة الله، بينما العلم قاصر عن القيام بهذا الدور، اللهم إلا إذا قادنا العلم إلى المعرفة الشاملة التي تدخل الحكمة بدورها في إطارها. هذا مع أن الصادق (عليه السلام) كان إماما في الدين، وكان يرى أن الدين هو أفضل السبل للتوجه إلى الله ومعرفته، لا الحكمة ولا الفلسفة.
ومعروف إن المسلمين في القرن الأول الهجري لم يعنوا بالحكمة ضمن المعارف الإسلامية، وكانت الحكمة أصلاً أو فرعاً من الدين الإسلامي طوال القرون المتعاقبة، إلا أن علماء المسلمين انتفعوا بالحكمة في إثبات الآراء الدينية في قضايا الألوهية وما وراء الطبيعة، واستشهدوا بها في مباحثهم اعتباراً من القرن الثاني الهجري، مما يصحّ معه القول بأن النهضة العلمية والعمرانية للمسلمين وتقدّمهم المادّي قد بدأت كلها من هذا القرن.
مما ساعد على قيام الوسط العلمي وامتداد الحركة الثقافية، اختلاط العرب بشعوب غير عربية، ووقوفهم على ثقافات الشعوب والأمم الأخرى.
وعلماء المسلمين الذين حالوا التوسل بالفلسفة في بحث أصول التفكير الإسلامي، أو بالأحرى الاستفادة من قوانين المنطق ومسائل الفلسفة في إثبات الآراء الدينية ودعمها، هم واضعو علم الكلام في الإسلام، وعلم الكلام معناه الفلسفة الإسلامية، أو التوسل بالفلسفة في فهم الدين الإسلامي.
وقد حدا هذا بالمسيحيين إلى تقليد المسلمين من حيث التوسل بالفلسفة في شرح الدين المسيحي، وذلك عندما احتكوا بالمسلمين في الحروب الصليبية التي استمرت طوال قرنين، وعندما نقلت مؤلفات المسلمين إلى اللغة اللاتينية (وهي اللغة العلمية التي كانت سائدة في أوروبا) وعندما وقف المسيحيون على أركان الفلسفة الإسلامية، أي علم الكلام.
ولولا الحروب الصليبية التي هيأت لأوروبا أن تحتك بالشرق، لبقيت سادرة في جهلها للعلوم والثقافات الإسلامية إلى القرن السابع عشر، وهو القرن الذي بدأ فيه غرس أشجار الفاكهة الشرقية في أوروبا، وكان من المنطقي أن تنتقل ثقافة الشرق إلى أوروبا مع انتقال هذه المزروعات.
وعندما نقلت آثار العلماء المسلمين إلى أوروبا، وقف بعض علماء الغرب المسيحي على الفلسفة الإسلامية، وحاولوا من خلالها ربط الفلسفة بالمسيحية، ومن هنا جاء استلهامهم لمبدأ ثنائية الجسم والروح من علماء المسلمين.
ومن أكثر فلاسفة الغرب تأثرا بالفلسفة الإسلامية، الفيلسوف الفرنسي مالبرانش(2) (1638ـ1715م) الذي كان من أتباع مدرسة ديكارت المعروفة باسم (كارتيزيان).
وكانت فلسفة ديكارت قد انتشرت في أوروبا انتشارا واسعا، واكتسبت احترام المثقفين في كل قطر، وأصبحت مذهبا فلسفيا شهيرا قبل وفاته عام 1650م.
وتنهض فلسفة ديكارت على أساس الشك في كل شئ، ومن أقواله المأثورة: إن كل شئ قابل للشك إلا نفسه.
وما دام ديكارت كان يشك في كل شئ، فمن الطبيعي أن يشك حتى في الدين المسيحي وحتى في وجود الله.
كان هذا التوضيح ضروريا ليعرف القارئ مدى تأثير الفكر الإسلامي في أوروبا الغربية، حتى إن مالبرانش الديكارتي تحول من المذهب (الكارتيزي) إلى التأثر بالفلسفة الإسلامية.
أما ديكارت(3)، فحسبنا في الإشارة إلى أثره في توجيه الفكر الأوروبي أن نذكر أن الناس أصبحت تعرفه فيلسوفا، ونسيت أنه كان أستاذا للرياضيات، وضابطا في الجيش وله طائفة من القوانين التي وضعها في الرياضيات والضوء اشتهرت باسم (القوانين الكارتيزيانية)، ولا يعرف خبرها إلا المشتغلون بالرياضيات والفيزياء، إذ إن شهرة ديكارت في الفلسفة قد غطت على شهرته في المجالات العلمية الأخرى.
وقد انجذب مالبرانش إلى أسلوب ديكارت وتفكيره، واستهوته فلسفته منذ الصغر، فوضع كتابا أسماه (طلب الحقيقة) نسج فيه على منوال ديكارت الفلسفي. وكان قصده من وضع هذا الكتاب التوسل بالفلسفة في شرح التفكير المسيحي بأسلوب ديكارتي، ولكن القارئ المتمعن لهذا الكتاب يلاحظ بوضوح أن مالبرانش كان في منهاجه وأسلبه متأثرا بالفلسفة الإسلامية والمتكلمين أكثر من تأثره بمنهاج ديكارت.
فالمتكلمون الإسلاميون يرون في مجالاتهم للتفكير الإسلامي أن الإنسان مركب من مادة وروح، وأن المادة ـوهي الجسمـ تفنى وأما الروح فباقية إلى الأبد، وأن الروح تحل في جسم الإنسان وتصبح جزءا مندمجا فيه مدى أيام حياته على الأرض، فلما تدركه منيته تغادره الروح إلى حيث تبقى حية إلى الأبد، وفي رأيهم أن خصائص الروح بعد الممات لا تتغير، فتظل محتفظة بجميع ما كانت عليه من صفات في حياة الجسم، كما تحتفظ بالشعور والإدراك اللذين كانا لها في الحياة البشرية، دون أن تحتاج إلى غذاء أو كساء.
وخليق بالذكر أن المتكلمين المسلمين يختلفون كذلك في كنه الروح وفي بقائها على قيد الحياة، فمنهم من يقول إنها باقية إلى الأبد مع فقدان الشعور والإدراك التي كانت لها في الجسم الحي، ومنهم من يقول إن الروح تحافظ على الشعور والإدراك وتعليل هؤلاء لهذا القول أن روح الإنسان مسؤولة عند ربه وعليها تقديم الحساب في يوم القيامة، فإن فقدت إدراكها وشعورها لم تستطع النهوض بهذه المهمة في اليوم الآخر.
وثمة حقيقة لا ريب فيها أن جميع المتكلمين والفلاسفة من المسلمين الذين اجتهدوا في التوسل بالآراء الفلسفية لشرح الدين، حرصوا على اجتناب كل ما يتنافى مع أصول الدين الإسلامي، ومن هنا اعترفوا ببقاء الروح، لأن يوم المعاد الذي تقام فيه دينونة البشر هو من أصول الدين، ولا تعارض من وجهة النظر الفلسفية بين قبول يوم المعاد وبقاء الروح خالدة.
وكل من يؤمن بالإسلام يؤمن بيوم المعاد باعتباره أصلا من أصول الدين، ويؤمن ببعث الجسم والروح مرة أخرى لتقديم الحساب، فإن كانت الأجساد تعرضت للفناء والعدم، فالله قادر على إعادتها إلى ما كانت عليه.
ولكن ليس هناك إجماع بين الفلاسفة على الاعتقاد بعودة الجسد إلى هيئته الأولى يوم القيامة، ولا عجب أن يقول بعض الفلاسفة بأن الجسد ينحل وينعدم، وأن العظام بصلابتها تغدو رميما بفعل الأيام، وأن ذرات التراب المتخلفة عن الجسد المنحل تتناثر في الجو ومياه الأنهار وتصبح جزءا من كائنات وعناصر أخرى في العالم، وهكذا تتواصل عملية التحلل والاستحالة، إلى أن يفقد جسد الإنسان جميع خصائصه، ويتغير تغيرا تاما بمرور القرون والأزمنة(4)، ولكن الفلسفة ترتضي الحجج القائلة ببقاء الروح، لأنها تدرك أن المواد والكائنات لا تنعدم، وأن المادة لا تفنى، وأن روح الإنسان خالدة بعد الموت، وهي التي تهيئ للإنسان عودة في يوم المعاد.
فلما جاء المتكلمون المسلمين، أكدوا أن الروح باقية، ووفقوا في هذا بين الفلسفة والدين متوسلين إلى إثبات أصول الدين لا بالقواعد الدينية نفسها بل بالقواعد الفلسفية، على أن هناك متكلمين وفلاسفة آخرين من المسلمين تنكبوا السبيل إلى التوفيق بين النظريتين الدينية و الفلسفية، فاتهموا بالإلحاد والزندقة.
وصفوة القول إن الفلاسفة المسلمين (المتكلمين) يؤكدون أن الإنسان يتألف من جسد وروح، وأن قوام حياته رهن بالتجانس والاتحاد بين هذين العنصرين، وطالما ظل هذا الاتحاد قائما ظل الإنسان متمتعا بالحياة، فإن انقطع انقطعت معه الحياة وحل به الموت، وبحلول الموت يستقل كل من الجسد والروح بمصيره، فيبلى الجسد ويدب فيه دبيب الفناء، أما الروح فتبقى خالدة.
وفلاسفة الكلام عند المسلمين لا يحاولون إقامة البراهين على أن الروح باقية خالدة، ولا يبحثون في أصلها وعنصرها، وقصاراهم أن يقولوا إن الروح من أمر الرب(5)، وهو الذي يكتب لها لبقاء والخلود كما أنه جل وعلا خالد.
فإذا عدنا إلى (مالبرانش) الذي استهواه المنهج الديكارتي في التفكير بادئ ذي بدء، وجدنا أنه يسلك مسلك فلاسفة المسلمين ويتبنى آراءهم، فيقول إن الإنسان يتألف من جسد وروح، وإن حياة الإنسان رهن باجتماع الروح والجسد واتحادهما معا، وإن هذا الاتحاد هو السبب الرئيسي للحياة والحركة، وإن انفصام الوحدة بين الروح والجسد يفضي إلى الموت وإلى فناء الجسد، وينصرف كل من العنصرين إلى حيث يستقل عن الآخر.
وعندما حاول مالبرانش أن يتوسل بالفلسفة في فهم الدين لمسيحي، كما فعل علماء المسلمين، درس آراءهم الفلسفية والعقائدية ووقف على سلامتها، وحذا حذوها.