ذكر إسحاق بن إبراهيم الكريم ابن الكريم عليهما الصلاة والسلام
قد قدمنا أنه ولد ولأبيه مائة سنة ، بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة ، وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين سنة .
قال الله تعالى : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " .
وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز .
وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم " .
وذكر أهل الكتاب أن إسحاق لما تزوج رفقا بن بتواييل في حياة أبيه ، كان عمره أربعين سنة ، وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت ، فولدت غلامين توأمين : أولهما اسمه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم . والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إلي بنو إسرائيل .
قالوا : وكان إسحاق يحب عيصو أكثر من يعقوب ، لأنه بكره ، وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر ، لأنه الأصغر .
قالوا : فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً ، وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطبخه له ، ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد ، فذهب يبتغي ذلك ، فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ، ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ، ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه ، وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين ، لأن العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس كذلك . فلما جاء به وقربه إليه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . ضمه إليه وجسه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب ، وأما الحبس والثياب فالعيص . فلما وفرغ دعا له أن يكون أكبر أخواته قدراً ، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده ، وأن يكثر رزقه وولده .
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره والده فقربه إليه ، فقال له ، ماهذا يابني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته ، فقال : أما جئتني به قبل ساعة وأكلت منه ودعوت لك ؟ فقال : لا والله ، وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك ، فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً . وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما ، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى ، أن يجعل لذريته غليظ الأرض ، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم .
فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب ، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إليه أخيها لابان الذي بأرض حران ، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه ، وأن يتزوج من بناته ، وقالت لزوجها إسحاق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له . ففعل .
فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم ، فأدركه المساء في موضع فنام فيه ، وأخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام ، فرأى في نومه ذلك معراجاً منصوباً من السماء إلى الأرض ، وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون ، والرب تبارك وتعالي يخاطبه ، ويقوله له : إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك ، وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك .
فلما هب من نومه فرح بما رأى ، ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنين في هذا الموضع معبداً لله عز وجل ، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره .
ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً يتعرفه به ، وسمى ذلك الموضع : بيت إيل أي بيت الله ، وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي .
قالوا : فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران ، إذا له ابنتان : اسم الكبرى : ليا واسم الصغرى راحيل وكانت أحسنهما وأجملهما ، فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى غنمه سبع سنين . فلما مضت المدة على خاله لابان صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وزف إليه ليلاً ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر . فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا فقال لخاله : غدرت بي ؟ وأنت إنما خطبت إليك راحيل . فقال : إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى ، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها .
فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها . وكان سائغاً في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة . وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته ، لأنه معصوم ، ووهب لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية ، فوهب لـ ليا جارية اسمها زلفى ووهب لـ راحيل جارية اسمها بلهى .
وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولاداً ، فكان أول من ولدت ليعقوب ، روبيل ، ثم شمعون ، ثم لاوى ، ثم يهوذا ، فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل ، فوهبت ليعقوب جاريتها بلهى فوطئها فحملت وولدت له غلاماً سمته دان وحملت وولدت غلاماً آخر سمته نيفتالي فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفى من يعقوب عليه السلام فولدت له : جاد ، وأشير ، غلامين ذكرين ثم حملت ليا أيضاً فولدت غلاماً خامساً منها وسمته ايساخر ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمته زابلون ثم حملت وولدت بنتاً سمتها دينا فصار له سبعة من يعقوب .
ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب فسمع الله نداءها وأجاب دعاءها ، فحملت من نبي الله يعقوب ، فولدت له غلاماً عظيماً شريفاً حسناً جميلاً سمته يوسف .
كل هذا وهم مقيمون بأرض حران ، وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى ، فصار مدة مقامه عشرين سنة .
فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله ، فقال له خاله : إني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت . فقال : تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع وكل حمل ما أبيض بسواد ، وكل أملح ببياض ، وكل أجلح أبيض من المعز . فقال : نعم .
فعد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس ، لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصفات ، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم .
قالوا : فعمد يعقوب عليه السلام إلى قطبان رطبة بيض من لوز ولب ، فكان يقشرها بلقاً ، وينصبها في مساقي الغنم من المياه ، لتنظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها ، فتصير ألوان حملانها كذلك .
وهذا يكون من باب خوارق العادات ، وينتظم في سلك المعجزات .
فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد ، وتغير له وجه خاله وبنيه ، وكأنهم انحصروا منه .
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ، ووعده بأن يكون معه ، فعرض له ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته ، فتحمل بأهله وماله ، وسرقت راحيل أصنام أبيها .
فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم ، لحقهم لابان وقومه فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه ، وهلا أعلمه ، فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول ، وحتى يودع بناته وأولادهن . ولم أخذوا أصنامه معهم ؟
ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه ، فأنكر أن يكون أخذوا له أصناماً فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئاً ، وكانت راحيل قد جعلتهن في برذعة الجمل وهي تحتها ، فلم تقم ، واعتذرت بأنها طامث . فلم يقدر عليهن .
فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها جلعاد على أن لا يهين بناته . ولا يتزوج عليهن ، ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر ، لا لابان ولا يعقوب ، وعمل طعاماً وأكل القوم عمهم وتودع كل منها من الآخر ، وتفارقوا راجعين إلى بلادهم .
فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم . وبعث يعقوب البرد على أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له . فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليه في أربعمائة راجل .
فخشي يعقوب من ذلك ، ودعا الله عز وجل وصلى له ، وتضرع إليه وتمسكن لديه ، وناشده عهده ووعده الذي وعده به . وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص ، وأعد لأخيه هدية عظيمة وهي : مائتا شاة ، وعشرون تيساً ، ومائتا نعجة ، وعشرون كبشاً ، وثلاثون لقحة ، وأربعون بقرة ، وعشرة من الثيران ، وعشرون أتانا ، وعشرة من الحمر ، وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده . وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة ، فإذا لقيهم العيص فقال للأول : من أنت ؟ ولمن هذا معك ؟ فليقل : لعبدك يعقوب ، أهداها لسيدي العيص ، وليقل الذي بعده كذلك ، وكذلك الذي بعده ، ويقول كل منهم : وهو جاء بعدنا .
وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين ، وجعل يسير فيهما ليلاً ويكمن نهاراً ، فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية ، تبدى له ملك من الملائكة في صورة رجل ، فظنه يعقوب ليصارعه ويغالبه ، فظهر عليه يعقوب فيما يرى ، إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب ، فلما أضاء الفجر قال له الملك : ما اسمك ؟ قال : يعقوب . قال : لا ينبغي أن تدعي بعد اليوم إلا إسرائيل . فقال له يعقوب : ومن أنت ، فذهب عنه . فعلم أنه ملك من الملائكة ، وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله . فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء !
ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل ، فتقدم أمام أهله . فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات ، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان . وكان مشروعاً لهم ، كما سجدت الملائكة لآدم تحية له ، وكما سجد أخوه يوسف وأبوه كما سيأتي .
فلما رأى العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى ، ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال : من أين لك هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذين وهب الله لعبدك ، فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له . ودنت ليا وبنوها فسجدوا له ، ودنت راحيل وابنها يوسف فخراً سجداً له . وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها .
ورجع العيص فتقدم أمامه ، ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبيد قاصدين جبال ساعير .
فلما مر بساحور ابتني له بيتاً ، ولدوا به ظلالاً ، ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية ، واشترى مزرعة شخيم بن جمور بمائة نعجة ، فضرب هنالك فسطاطه ، وابتني مذبحاً فسماه إيل إله إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه . وهو بيت المقدس اليوم ، الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام . وهو مكان الصخرة التي علمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك ، كما ذكرنا أولاً .
وذكر أهل الكتاب هنا قصة دينا بنت يعقوب بنت ليا وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها ، وأدخلها منزله ثم خطبها من أبيها وإخوتها ، فقال إخوتها : إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا ، فإنا لا نصاهر قوماً غلفاً ، فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم . وقتلوا شخيماً وأباه جمهور لقبيح ما صنعوا إليهم ، مضافاً إلى كفرهم ، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم ، فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة .
ثم حملت راحيل فولدت غلاماً هو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً وماتت عقبيه ، فدفنها يعقوب في أفراث وهي بيت لحم ، وصنع يعقوب على قبرها حجراً ، وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم ، وكان أولاد يعقوب الذكور اثنى عشر رجلاً ، فمن ليا روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وايساخر وزابلون . ومن راحيل : يوسف وبنيامين ، ومن أمة راحيل دان ونفتالي ، ومن أمة ليا جاد وأشير عليهم السلام .
وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن إبراهيم ، ثم مرض إسحاق ومات عند مائة وثمانين سنة ودفنه ابناه : العيص ، ويعقوب من أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمن