بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العاقل من يدخل الآخرة في حساباته :
أيها الأخوة الكرام، أخرج الإمام البخاري في كتاب التوحيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ اللّهِ أَحَبّ اللّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كَرِهَ اللّهُ لِقَاءَهُ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه))
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
أخواننا الكرام: أتمنى على نفسي وعليكم معاً في كل حركة وسكنة، في كل موقف، في كل عطاء أو منع، في كل غضب أو رضا، في كل صلة أو قطيعة، أن تدخل في حساباتك أن الله إذا سألك لماذا فعلت هذا؟ ألك جواب عند الله؟ إنك إن أدخلت موضوع الآخرة، وسؤال الله لك، وموقفك من الله، في كل حركاتك وسكناتك، ما الذي يحصل؟ أنه إذا اقترب الموت تحب لقاء الله.
كي أكون واقعياً كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:
(( ... إنا لنكره الموت...))
وما من حي إلا ويكره الموت مؤمناً كان أو غير مؤمن، ولكن إذا جاء الموت المؤمن يحب لقاء الله، لأنه قدّم ماله أمامه، لأنه قدّم أعماله الصالحة أمامه، واليوم الإنسان لو حوّل أمواله كلها إلى بلد بعيد، واستحصل على وثيقة للخروج، وركب الطائرة، وذهب إلى مكان فيه مال وفير، يشعر بسعادة كبيرة، والإنسان حينما يخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، يشعر براحة كبيرة، فرضاً لو أن الجنين في بطن أمه يتكلم، يعيش في سبعمئة و خمسين سنتمتراً مكعباً، بدفء، براحة، بطعام عن طريق الصرة، كل أموره منتظمة، وقيل له: تفضل اخرج، يتشبث، هنا أفضل، أنا مرتاح لماذا أخرج؟ فإذا خرج خرج إلى الدنيا، جبال، وأنهار، وسواحل، وبيوت، وطعام، وشراب، وسفر، وإقامة، كان في سبعمئة و خمسين سنتمتراً مكعباً فأصبح في الدنيا، إذاً هو حينما قيل له: تفضل اخرج، يتشبث بالرحم، يحب ألا يخرج، يتضايق من الخروج، أما حينما يسكن بيتاً فريداً، وقصراً منيفاً، ويأكل ما لذّ وطاب من الطعام، ويلتقي بمن يشاء، ويمتع عينيه بمناظر الطبيعة، عندئذٍ يضحك من نفسه كيف كان متشبثاً بالرحم، المؤمن يخرج من الدنيا إلى سعة الآخرة كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.
من كان مستقيماً على أمر الله وله أعمال طيبة يحب لقاء الله عز وجل :
لذلك في الأصل المؤمن - وأي إنسان- يحب الحياة ويكره الموت، بل إن الله سبحانه وتعالى وصف الموت بأنه مصيبة، ولكن حينما يأتي الموت فعلاً لاستقامتك على أمر الله، ولأنك أمضيت عمراً مديداً في طاعة الله، ولأنك أنفقت مالاً وفيراً في طاعة الله، ولأنك ضبطت جوارحك وفق منهج الله، ولأنك بنيت حياتك على العطاء، لذلك تحب لقاء الله، وإذا أحببت لقاء الله أحب الله لقاءك، إذا أحببت لقاء الله أطلعك على مقامك في الجنة، فقلت: لم أرَ شراً قط، لو أن حياة المؤمن مشحونة بالمتاعب، لو أن المصائب تتراكم عليه، ثم عرف مقامه في الجنة لقال: لم أرَ شراً قط.
والله أعرف رجلاً من كبار أصحاب الدخول الكبيرة، وله أذواق في الحياة الدنيا فريدة، وله بيوت عديدة، ومركبات فارهة، وكان غارقاً في متع الدنيا إلى قمة رأسه، أصيب بمرض عضال، قريبه صديق لي قال لي: بعد أن علم بمرضه الحقيقي كانت تأتيه نوبات هستيرية، يقول: لن أموت، لا أريد أن أموت، كنوبات، يقسم لي أحد جيرانه أنه حينما فارق الحياة صاح صيحة سمعها كل من في البناء، في الطوابق كلها، من شدة فزعه من الموت، أما المؤمن المصلي، الصائم، الذي ضبط جوارحه، وضبط لسانه، وضبط إنفاقه، وضبط دخله، وكان في طاعة الله، وكان ممن يعمر مساجد الله، ممن يحب العمل الصالح، فهذا يأتيه ملك الموت بأحب الناس إليه، السلف الصالح لهم قصص والله أنا أصدقها، إنسان صالح جداً على فراش الموت يقول لابنه: قم سلم على عمك، قال له: أين عمي؟ قال له: عمك أمامك، سلم عليه، عمه متوفى، يأتيه ملك الموت بأحب الناس إليه، لذلك المؤمن إذا كان مستقيماً على أمر الله، وله أعمال طيبة يحب لقاء الله، إذاً:
(( مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ اللّهِ أَحَبّ اللّهُ لِقَاءَهُ ....))
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾
[ سورة يس : 26-27 ]
واكربتاه يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
(( مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ اللّهِ أَحَبّ اللّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كَرِهَ اللّهُ لِقَاءَهُ ...))
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
نعيد الحديث:
(( مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ اللّهِ أَحَبّ اللّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كَرِهَ اللّهُ لِقَاءَهُ...))
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
المؤمن يحب لقاء الله فيحب الله لقاءه :
والله أيها الأخوة، حضرتني قصة، طبيب كريم من أخواننا الكرام، من رواد هذا المسجد، كان في مستشفى، وجاء مريض معه ورم خبيث في الأمعاء، وآلام هذا المرض في الأمعاء لا توصف، كلما دخل عليه طبيب، أو ممرض، أو عائد، أو صديق، أو قريب، يقول: الحمد لله رب العالمين، اشهد أنني راضٍ عن الله، كلما دخل عليه زائر يطلب شهادته يوم القيامة أنه راضٍ عن الله، قال لي هذا الطبيب: كان هذا المريض إذا ضغط على الجرس يتدافع الممرضون لخدمته، يتدافع الأطباء لخدمته، غرفته فيها أنس، فيها سرور، أي أعطاهم دروساً في الصبر، ودروساً في محبة الله، ودروساً في الفرح بلقاء الله، وبعد أيام توفي، من غرائب الصدف أنه دخل إلى الغرفة نفسها مريض بالمرض نفسه، لكنه من أهل البعد، ما ترك نبياً إلا سبه، كلمات الكفر على لسانه تترا، ورائحته لا تحتمل، فإذا قرع الجرس لا أحد يستجيب له، ومضى عليه أيام ثم مات، قال لي: هذه الغرفة علمتنا درسين؛ درس المؤمن إذا مرض، والكافر إذا مرض، المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
بوابات الألم معجزة من الله عز وجل :
لذلك أيها الأخوة، مرّ معي أن طريق الآلام في الإنسان الأعصاب المنتشرة بالجلد، وفي كل أماكن الجسم، هذه تجتمع بأعصاب كبرى، ثم تسلك طريق النخاع الشوكي، ثم تصل إلى الدماغ، وفي قشرة الدماغ يشعر الإنسان بالألم، على طريق الآلام بوابات إذا أغلقت ضعف الألم إلى قدر كبير، أي إلى واحد بالعشرة، قال: وهذه البوابات تتحكم بها الحالة النفسية للمريض، فإذا كان المريض مؤمناً على طريق الآلام هناك بوابات هذه تغلق، وإذا أغلقت هبط الألم إلى العشر، وإذا كان الإنسان قلقاً وكافراً وساخطاً على الله عز وجل البوابات مفتوحة، والآلام لا تحتمل، وبهذه النظرية يفسر أن مريضين أصيبا بمرض واحد، وآلامه واحدة، لماذا الأول يحتمل الآلام إلى حدٍّ كبير والثاني لا يحتمل؟ إنها بوابات الألم:
(( مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ اللّهِ أَحَبّ اللّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كَرِهَ اللّهُ لِقَاءَهُ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه))
[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
والحمد لله رب العالمين