حديثنا اليوم عن الصحابة والتوبة، فالصحابة هم أفضل الأجيال على الإطلاق، جاء ذلك تصريحا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
والأحاديث في هذا الأمر أكثر من أن تحصى، أحاديث كثيرة جدا، أثبتت الخيرية لهذا الجيل، وأنه أفضل من كل أجيال الأرض، ومع ذلك، فالصحابة بشر، ليسوا معصومين من الخطأ، لا شك أنهم كانوا يخطئون، وأحيانا كانوا يخطئون أخطاء شديدة، بل أحيانا كانوا يخطئون أخطاء كبيرة، بل في بعض الأوقات لا يتخيل الإنسان أن يخطئ الصحابي هذا الخطأ، وكانوا يتوبون من هذه الأخطاء.
المبالغات الكبيرة في قصص الأولياء
أخطأ بعض الناس في المبالغة الشديدة في أحوال الصحابة، ونقلوا عنهم القصص العجيبة الضعيفة جدا، بل أحيانا الموضوعة، والتي تظهرهم بصورة ملائكية، وترتفع بهم فوق صور البشر، والصحابة لا يحتاجون لمبالغة حتى يُعَظمون، يكفي أن تنقل الصورة الحقيقة للصحابة، ففي هذا كل التعظيم لهذا الصحابي، كان فعلا جيلا فريدا عظيما جدا متميزا، ولكن المبالغة فيها خطورة كبيرة جدا، فقد تصيب اللاحقين باليأس، مثل ما ذكرنا، فقد ذكرنا أن المبالغة في صور الصحابة تجعل اللاحقين ييأسوا من إمكانية الوصول إلى مثل هذه الصورة، أنا أحكي لكم حكاية جاءت في أحد الكتب، وفيها الكثير من المبالغات، يقول: رأيت بدويا بمكة.
وهو يتكلم على صفة غريبة جدا من صفات البشر، أو فعل عجيب جدا من أفعال البشر، والبشر الذي يتكلم عليه ليس صحابيا، فما بالك بالصحابي، يقول:
كنت بالبادية، وإذا بغلام حاف مكشوف، ليس معه زاد، ولا ركوة، ولا عصى، فقلت في نفسي: أدرك هذا الفتى، فإن كان جائعا أطعمته، فإن كان عطشانا سقيته. فبادرت إليه حتى بقي بيني وبينه مقدار ذارع، وإذا به ابتعد عني حتى غاب عن عيني.
هذا أول شيء، الغلام الصغير هذا طار وكانت المسافة بينه وبينه حوالي ذراع وفجأة رآه في آخر الدنيا بعيدا عنه، فأول شيء قاله أنه طار، فقلت: هذا شيطان.
فإذا به ينادي: لا، بل سكران.
الغلام يرد عليه من مسافة بعيدة: بل سكران.
فناديته: يا هذا بالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق إلا وقفت.
أقسمت عليه أن يقف، قال: أتعبتني، وأتعبت نفسك.
فقلت له: رأيتك وحدك، فأردت خدمتك.
فقال: من يكن الله معه، كيف يكون وحده؟
فقلت له: ما أرى معك زاد.
فقال لي وهذا من باب المبالغات: إذا جعت فذكره زادي، وإن عطشت فمشاهدته سؤلي ومرادي.
أي أن هذا الرجل لا يأكل، ولا يشرب، فقلت له: أنا جائع، فأطعمني.
فقال: أولا تؤمن بكرامات الأولياء؟
فقلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
فضرب الولي الغلام الصغير بيده الارض فكانت أرضا رملا، ثم قبض قبضه من الرمل، وقال: كل يا مخدوع.
فإذا به سويق ألذ ما يكون السويق.
والسويق هو الدقيق الناعم، فقلت: ما ألذه.
فقال لي: في البادية، عند الأولياء من هذا كثير.
أي هناك في الصحراء، عند من يعتكفون، هناك خبز من هذا كثير جدا لو عقلت.
فقلت له: اسقني، أريد أن أشرب.
فركض برجله الأرض، فإذا هو بعين من عسل وماء، فجلست لأشرب، ثم رفعت رأسي، فلم أره، ولا أدري كيف غاب ولا أين ذهب، فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم إلى الآن لعلي أرى مثل ذلك الوليد.
هذه الحكايات فوق أنها واضحة الافتراء، لها أثار سلبية ضخمة على طرق التربية، والتنشئة، فالناس من المستحيل أن تصل لمثل هذه الأساطير فيصيبها نوع من الإحباط، نحن نتعامل مع الناس، أو نتعامل مع نوعيات ليست من البشر، فلا يمكن أن تقلدها، ولكن عندما أفهم أن الصحابي بشر من الممكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب، من الممكن أن يختار الأولى، أو يختار خلاف الأولى حسب الموقف، وحسب الظرف الذي يوجد فيه، ولأنه بشر ومعرض للخطأ فأنا أستطيع أن أقلده.
كان الصحابة أولي بهذه الكرامات من غيرهم
ونحن نتساءل: هل يحدث هذا مع هذا الغلام الذي لا نعرفه، ولا يحدث مثل هذا مع أكابر الصحابة؟
هل إذا أراد أبو بكر مثلا رضي الله عنه أن يأكل يقبض من الرملة فإذا هي خبز ولحم؟
ولو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أراد أن يشرب هل كان يضرب الأرض برجله حتى يخرج منها عسل؟
وهل إذا أراد عثمان رضي الله عنه أن ينتقل من مكان إلى مكان طار في الهواء وطار مثل هذا الغلام لا يراه الناس ولا يعرفون أين ذهب؟
سبحان الله! منهج عجيب جدا في التلقي، أسلوب مبتدع في التربية، وسيلة من وسائل التعجيز للناس، وليس من ورائها أي حقيقة، لم يكن الصحابة كذلك، بل كانوا بشرا، إذا أرادوا الأكل بحثوا عن الطعام، وكدوا في طلبه، واجتهدوا في طبخه، وإعداده، ثم أكلوا بعد ذلك، وإذا أرادوا الشرب حفروا الآبار، وإذا سافروا حملوا معهم الماء الذي يكفيهم، واختاروا الطريق المأهولة، وأعدوا العدة الكافية، نعم قد تحدث لهم كرامات، لكن هذه الكرامات ثابتة، ومواقف معدودة معينة، ولم تكن بإرادة منهم، إنما كان الله عز وجل يهبها لمن يشاء وقتما يشاء.
ولأن الصحابة كانوا بشرا فإنهم كانوا يخطئون أحيانا، ولا ضير في ذلك ما دامت الخطيئة ستتبع بتوبة، من خصائص الإنسان أنه يخطئ، لا يوجد إنسان لا يخطئ أبدا، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ".
طبعا هذه ليست دعوة للذنوب، إنما هي تقريب للواقع، دعوة للتوبة، الواقع الذي خلقه الله عز وجل أن الإنسان لا بد أن يخطئ، والكمال لله عز وجل وحده، والمعصوم هو من عصمه الله عز وجل، وحتى الأنبياء، فإنهم أحيانا يختارون خلاف الأولى، ويُلامون على ذلك من الله عز وجل، وذلك لإثبات بشرية هؤلاء، وإلى هذا المعنى أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
إذن الصحابة يذنبون، والصحابة يتوبون من ذنوبهم، ولكن توبة الصحابة كانت توبة ذات طابع خاص جدا، لها سمات مميزة، ولها صفات أصيلة على جانب كبير من الأهمية، فمن المعلوم أن شروط التوبة عند كل البشر ثلاثة، أي إنسان أخطأ، والخطأ هنا في حق ربنا سبحانه وتعالى، فعليه بثلاثة أمور حتى يتوب إلى الله عز وجل، فأول شيء أن يقلع عن المعصية فورا، والثاني أن يندم على فعلها، يندم يعني طول حزن فيه طول بكاء ألم شديد في النفس على المعصية التي مرت، والثالث أن يعزم على ألا يعود إليها أبدا، هذا العزم لا بد أن يكون عزما صادقا، والله سبحانه وتعالى مطلع على القلوب، لو كان الذنب هذا متعلق بحق آدمي يضاف شرط رابع، أن يرجع الحقوق لصحابها، يعني فيه مال سرق مثلا يرجع المال المسروق، وإذا شهدت شهادة زور، تذهب وترد شهادة الزور، وإذا كان هناك قطيعة، أو هناك سباب، أو هناك خطأ في حق أحد، تذهب، وتأخذ العفو منه على الخطأ الذي وقع منك في حقه.
سمات التوبة عند الصحابة
لكن التوبة في حياة الصحابة كانت تتميز بصفات رائعة فوق هذه الصفات الأساسية، فهناك خمس سمات سوف نتكلم عليها.
- التوبة من قريب
فالسمة الأولى شيء كان واضح جدا، وهي التوبة من قريب، لم يكن هناك إصرار على المعصية عند الصحابة، كان إذا ضعف، وارتكب ذنبا، أفاق سريعا، وتاب إلى رشده، وعاد إلى الله عز وجل، وهذا كان يوجب له المغفرة الكاملة من الله عز وجل، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.
هناك مثل لطيف يقوله الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين، يقول: إن قطرات الماء الصغيرة إن وقعت على حجر، ولكن بصورة متتالية، وعلى فترة طويلة من الزمن، فإنها تؤثر في حين إذا جمعت هذه القطرات كلها في دلو واحد وسكبتها مرة واحدة على الحجر لا تؤثر في الحجر.
إذًا لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.
لذلك الله عز وجل يفتح باب التوبة باستمرار لكل البشر حتى تعود إليه في الوقت الذي تذنب فيه، فلا تؤجل التوبة لرمضان، أو تؤجل التوبة للحج، أو تؤجل التوبة حتى تكبر في السن؛ لأن باب التوبة مفتوح في كل وقت، روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ".
فيكون طول الليل عندك فرصة التوبة مفتوحة.
"وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ".
كذلك النهار كله عندك فرصة بأن تتوب من ذنوب الليل.
"حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مَنْ مَغْرِبِهَا".
حتى العلامات الأخيرة من يوم القيامة.
فالصحابة كانوا يعلمون أن التوبة المتقبلة حقا هي التي يسرع بها الإنسان المخطئ إلى الله عز وجل، وذلك مثال لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17].
أبو قتادة رحمه الله يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل ذنب هو جهالة. فعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] المقصود بها أي ذنب ارتكب في حق الله عز وجل، أو في حق العباد
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(17)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمً} [النساء: 17 ،18].
فأول سمة واضحة جدا من سمات التوبة عند الصحابة أنهم كانوا يتوبون من قريب، نعم يخطئون، نعم يقعون في أخطاء، قد تكون أخطاء جسيمة، لكنهم سريعا يعودون إلى الله عز وجل، وليس عيبا أننا نخطئ، ولكن كل العيب أننا نصر على هذا الخطأ.
تعالوا نرى موقفا يوضح لنا هذه الصورة السريعة في التوبة.
توبة أبي لبابة
لقد خانت بنو قريظة العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما نعلم في غزوة الخندق خانت العهد، وبعد الغزوة الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يذهب، ويحاصر بني قريظة، وبالفعل حاصر بني قريظة خمسة عشر ليلة ومتصلة حتى أصابهم اليأس والفزع، فطلبت بنو قريظة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم رجلا للتفاوض معه، واختاروا أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وأرضاه وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأنصار، ومن الأوس، ولماذا اختارواهذا الرجل؟
لأنه كان حليفا لهم في الجاهلية، فقالوا:
من الممكن أن نتكلم معه ونتفاهم معه ويكون قلبه رحيما علينا. فاختاروا هذا الرجل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عزم على أن يقتل بني قريظة لأنهم خانوا الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة ضخمة جدا، وكانوا سوف يدخلون قريشا إلى داخل المدينة المنورة، ويستأصلون كل المسلمين في المدينة المنورة، فالجزاء من جنس العمل، وقرر قتل بني قريظة، فلما طلبوا أبا لبابة، ذهب إليهم للتفاوض، والتحاور معهم، والرسول نبه أبا لبابة ألا يخبر اليهود بهذا القرار؛ لأنهم إن عرفوا هذا القرار لن يفتحوا الأسوار، وسوف يظلون محاصرين فترة طويلة من الزمن، وبالطبع فإن حصون بني قريظة كانت كبيرة جدا، وفيها الغذاء والماء، ومن الممكن أن يطول الحصار شهورا، ذهب إليهم أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه فلما رآه اليهود قام إليهم رجالهم، وجهشت إليه نساؤهم، والصبيان يبكون في وجه، الكل يبكي؛ لأنهم يعرفون النهاية، فَرَقّ لهم، فقد كان بينه وبينهم علاقات سابقة، فرق لهم، فقالوا له:
يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال بلسانه: نعم، انزلوا على حكمه.
ولكنه أشار إلى حلقه، أي أنه الذبح، إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن يذبحكم.
لقد أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، خان العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، جريمة كبرى جدا، إنه من الأنصار، ومن الصحابة الثابتين في الإسلام، والعظماء جدا في التاريخ الإسلامي، وله تاريخ فيما سبق، لكن سبحان الله النفس ضعيفه، أخطأ في لحظة، وهذا الخطأ لا يقع فيه كثير من المسلمين، خطأ كبير جدا أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو لبابة رضي الله عنه:
فوالله ما زالت قدماي من مكانهما، حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله. هنا علم أنه أذنب، وأن الذنب كبير جدا، إنها لحظة ضعف، نعم وقع في الخطأ، ولكن هناك التوبة، انطلق أبو لبابة رضي الله عنه على وجه على الفور مباشرة، ولم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه في عمود، وقال: لا أبرح مكاني هذا، حتى يتوب الله علي مما صنعت.
فقد ربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وقرر ألا يفك نفسه، حتى يفكه الرسول صلى الله عليه وسلم، يفكه بنفسه عندما تنزل توبة الله عز وجل، وكان من الممكن أن يكتم الموضوع، لم ير أحد من المسلمين ما حدث، ولكنه يدرك أنه ذنب كبير، وخطأ كبير جدا، لا بد أن يتوب من هذا الخطأ، ففرصته في التوبة في الدنيا، ولو مات قبل أن يتوب الله عليه ذهبت الفرصة، وقيل إنه قد نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].
وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم بأن أبا لبابة رضي الله عنه وأرضاه قد ربط نفسه بالعمود في المسجد، وأقسم ألا يبرح هذا المكان، حتى يتوب الله عليه، سبحان الله! إنه عقاب صعب جدا، ولكنها التوبة الحقيقية، ولم تهمه صورته أمام الناس، وأمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يشغله المدة التي سوف يمكثها في محبسه، هل هي أيام، أم شهور، حتى تنزل توبة الله عز وجل عليه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لما وصله أنا أبا لبابة قد قيد نفسه في العمود قال: "أَمَا لَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ".
الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم لو كان أخبرني قبل أن يربط نفسه، كنت قد سامحته، لكن ما دام أقسم أنه لن يفك نفسه حتى يتوب الله عز وجل، فلن أستطيع أن أتحرك إليه حتى تنزل التوبة من الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: "فَأَمَّا إِذْ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ فَمَا أَنَا بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ".
وظل أبو لبابة محبوسا في القيد ستة أيام متواصلة، تأتيه امرأته في كل وقت صلاة تفك القيد فيصلي، وترجع تقيده ثانية من جديد، ألم شديد في النفس، وتوبة سريعة إلى الله عز وجل، توبة صادقة، وبعد ستة أيام، نزلت رحمة الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة على الصحابي الجليل أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وأرضاه، ونزلت التوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم المؤمنين أم سلمة، تقول أم سلمة:
فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو يضحك، والرسول فرح جدا أنه قد نزلت التوبة على أبي لبابة، حب شديد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عموم الصحابة، وعموم المسلمين إلى يوم القيامة صلى الله عليه وسلم، فيضحك وعندما سئل: لماذا تضحك؟
قال: "لَقْد تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ".
قالت: أفلا أبشره يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: "بَلَى إِنْ شِئْتِ الْكَلَامَ".
وهذا حدث قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فوقفت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا لبابة، وكانت حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم مطله على المسجد، والرجل مربوط داخل المسجد، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر، فقد تاب الله عليك.
قال: فسار الناس إليه ليطلقوه، كل الناس ذهبت بسرعة تفكه فقال: لا، والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أطلقه.
والشاهد من القصة، أن أبا لبابة قد أخطأ خطأ كبيرا جدا، فقد أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفشى سرا يعتبر من الأسرار العسكرية، أسرار الدولة الهامة، والرسول قد أخبره ألا يذيع هذا السر، ومع ذلك وقع في الخطأ، وليست هذه المشكلة، وإنما المشكلة أن يقع الإنسان في مثل هذا الخطأ، ويظل مصرا على المعصية، ولكن أبا لبابة، لم يصر على المعصية، فبمجرد أن أخطأ ذهب بسرعة وربط نفسه في السارية، وظل هكذا حتى تاب الله عليه، وتاب توبته السريعة جدا لله عز وجل فتاب الله عليه {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17].
توبة عمار بن ياسر
وعمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه قصته معروفة، قام معه المشركون بأشد أنواع التعذيب فترة بمكة، ليس له وحده، بل لكل العائلة، له، ولأمه، ولأبيه، وضعوا الصخر على صدره، وأغرقوه، وقاموا بقتل والده، وأمه، قتلوهم أمامه، ياسر وزوجته سمية رضي الله عنهما، وطلبوا من عمار بن ياسر أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام القهر، والتعذيب، وأمام الإكراه الحقيقي، وأمام القتل الفعلي الذي حدث لأعز الناس لديه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام الألم الرهيب الذي أحس به في كل ذرة من جسده، قال ما أراد الكفار، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم سبه بلسانه، وقلبه لا يقدم عليه أحدا من خلق الله، ولا حتى نفسه التي بين جنبيه، مع أن الموقف سليم شرعا، يعني لو واحد تعرض للتعذيب، والإكراه بأن يقول هذه الكلمة من الممكن أن يقولها ما دام القلب مطمئنا بالإيمان، ولكنه لا يعرف أن هذا الموقف سليم شرعا، فماذا يعمل عمار رضي الله عنه وأرضاه؟
جاء مسرعا باكيا معتذرا تائبا من قريب جدا، بمجرد أن تركه الكفار، فبعد ما قال الكلمة التي قال، جاء بسرعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ما بدر منه، ويبكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتذر إليه مما فعل، يقول: قد قلت فيك كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم له: "كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟"
قال عمار: أجده مطمئنا بالإيمان.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنْ عَادُوا فَعُدْ".
فأنزل الله عز وجل قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
الواقع أن قضية التوبة من قريب قضية على قدر كبير من الخطورة، بالنسبة للمؤمنين، خطيرة لأن مرتكب الذنب حال ارتكابه للذنب يكون على خطر عظيم.
وانظر إلى هذا الحديث المخوف المرعب في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِجُ نَهْجَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِجُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
أي لا يسرق سرقة والناس تنظر إليهن وتخشاه ؛ لأنه صاحب سلطة، وصحاب قهر، وصحاب سلطان، وليس المقصود أنه صلى الله عليه وسلم يكفر المؤمن بهذه المعاصي، ولكن ينتقص إيمانه انتقاصا شديدا يتذبذب إلى الحد الذي قد يخرجه بعد ذلك من الإيمان بالله تماما إلى الكفر، وانظر إلى الحديث الذي رواه الإمام البيهقي، وابن حبان، وصححه، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقول: قال صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ".
في آخر الحديث يقول: "وَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ إِلَّا أَوْشَكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ".
فالمعصية الكبيرة التي يصر الإنسان عليها مرة، واثنتين، وثلاثة، يعملها وهو متذبذب الإيمان جدا، وإن أصر عليها يوشك أحدهما أن يخرج الآخر، المعصية تخرجه من الإيمان بالكلية، يصبح كافرا، إن ارتكاب المعاصي ليس مكفرا في حد ذاته؛ ولكنه قد يقود إلى الكفر، وبالذات لو جاء الموت إنسانا، وهو يرتكب المعصية، شيء في منتهى الخطورة، وكثيرا ما نسمع عن إنسان مات، وهو يشرب الخمر، أو مات وهو يزني، أو مات وهو يسرق، أو يقتل، أو ما إلى ذلك من الموبقات، ففي كل هذه الأحوال يكون على خطر عظيم، روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ".
خطير جدا أن الإنسان يموت على معصية، إن التوبة من قريب قضية في منتهى الأهمية الصحابة كانوا يتذكرونها جيدا، وكانت السمة الأولى من سمات التوبة للصحابة.
- عدم تبرير الذنب
السمة الثانية الهامة جدا أيضا هي عدم تبرير الذنب، وعدم الجدل فيه، فعندما أذنب، وعرف بأنه قد أذنب، لا بد وأن يتوب بسرعة من غير أن يجادل، يقول لك، والله أنا لم أخطئ، وكثير من الناس لا يريد الظهور بمظهر المذنب أمام الناس، لا يفقه أهمية النصيحة في إصلاح الفرد والمجتمع، فالمسلم مرآة أخيه، وإن أنت أذنبت ففكر في الذنب بدلا من أن تفكر في الجدال يا ترى أنا أذنبت أم لم أذنب؟
وتظل تبرر صورتك أمام الناس، ولم يكن الصحابة هكذا، وكثيرا ما نرى بعض الناس يبررون جرائم خطيرة، وكبيرة يبررون الاختلاس من أموال الدولة، ويبرررون الظلم الذي يقع على خلق الله عز وجل، ويبررون السباب، والشتائم، والقذف، والغيبة، ويبررون كل جريمة، وإن عظمت، وتبرر كل معصية وإن كانت مثل ضوء الشمس، ولكن الصحابة لم يكونوا كذلك، فالصحابة ما كانوا يجادلون في ذنوبهم أبدا، ولا يبررون معاصيهم إلا بالتبرير الذي كانوا يعتقدونه أحيانا، فلو ظهر لهم الحق اتبعوه مباشرة دون تردد، والصحابة كانوا يرحبون بمن كان يهدي إليهم عيوبهم، ويجلون من يوضح لهم أخطاءهم، ومن الأفضل أن أعرف الخطأ في الدنيا وجميل أنك بصرتني جزاك الله خيرا أنك أخبرتني بالخطأ الذي وقعت فيه، عندي فرصة الآن أن أتوب بدلا من الاستمرار في الذنب، يوم، واثنين، وشهر، وشهرين، والعمر كله، ولا يقول لي إنسان، ما هو الأصح النصح بالتوبة، أم أن الإنسان يترك كل إنسان على هواه إلى أن يلقى العقاب الذي يعطيه الله عز وجل على هذا الذنب بعد أن يكون قد مات، وليس هناك وقت للرجعة.
تعالوا ننظر إلى الصحابة، وكيف كانوا يتعاملون مع قضية الذنب عندما يعرفوه:
موقف أبي مسعود الأنصاري
انظر مثلا موقف أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، روى الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتا: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ".
فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هناك خطأ، وذنب قد حدث، فالرجل كان يضرب غلامه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذره، فماذا فعل أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه؟ قال: هو حر لوجه الله يا رسول الله.
أعتق الغلام، ولم يقل له ماذا بدر من الغلام.
لم يبرر ضربه للغلام، وقد تكون بعض المبررات صحيحة، ولكنه يعرف أنه قد تجاوز، فلما عرف هذا الأمر، واكتشف هذا الأمر، لم يتردد لحظة للتوبة لله عز وجل، لم يجادل دقيقة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ".
فهذا الخطأ يستحق العقاب الشديد من الله عز وجل، لكن الصحابي لما تاب إلى الله سبحانه وتعالى تاب عليه.
موقف أبي بكر الصديق
وانظر إلى موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو في غاية الجمال، روى مسلم وأحمد عن عائد بن عمرو رضي الله عنه أن أبا سفيان أتى على سليمان، وصهيب، وبلال في نفر، ونحن نعلم أن سلمان، وصهيب وبلال الثلاثة كانوا من الموالي، ثم اعتقوا بعد الإسلام، وفي يوم من الأيام مر أبو سفيان على الثلاثة، وهؤلاء الثلاثة كانوا من الضعفاء، وهذا المرور من أبي سفيان على هؤلاء الثلاثة، كان بعد صلح الحديبية، في زمن الهدنة فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
أي كنا نود أن نرى السيوف تقطع في رقبة أبي سفيان، وهذا الكلام كانوا يقولونه أمام أبي سفيان في زمن الهدنة، قال عائد رضي الله عنه، وعائد هو عائد بن عمرو راوي الحديث، يقول: فقال أبو بكر رضي الله عنهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم.
بدأ يلوم على الثلاثة الضعفاء الذين قالوا هذه الكلمات، فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، وقص أبو بكر الصديق ما حدث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يرى من المخطئ، ومن المصيب، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ".
انظر إلى كرامة بلال، وكرامة سلمان، وكرامة صهيب عند الله عز وجل، وانظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر موقف الصحابة الضعفاء الثلاثة الذين رأوا رأس الكافرين، وهو يمشي أمامهم، تذكروا كل ما فعل بهم في أرض مكة، وتذكروا أنهم الآن يعيشون في المدينة، وخرجوا مشردين من مكة، فقد كان لهم ديار في مكة، وكان لهم عيشة في مكة، كل هذا أهل الكفر حاربوهم فيه، فقالوا هذا الكلام من جراء المعاناة الشديدة التي كان يعاني منها هؤلاء الصحابة، فالرسول يقدر موقفهم، ويقدر القهر، والتعذيب، والبطش، والطرد، والحرب المستمرة التي كانت من قريش، وانظر إلى موقف أبي بكر الصديق الذي كان يمتلك المبررات، وكان يمتلك الوسيلة التي من الممكن أن يرد بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولا: هذا زمن هدنة، ولا داعي لإثارة أمور قد تثير الحرب بين الطرفين.
وثانيا: هذا سيد قريش، هذا أبو سفيان، ويرجى إسلامه، ولو أسلم هذا الرجل لأسلمت قريش من ورائه، لو سمع هذه الكلمة من الممكن أن ينفر من الإسلام.
وثالثا: أنه لا داعي لسب الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدْوا بغير علم.
ورابعا: أن من الأفضل الدعوة بالتي هي أحسن.
فهذه أسباب كثيرة، ومبررات كثيرة يستطيع أبو بكر، وهو لا ينقصه حجة ولا بلاغة، يستطيع أن يذكرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أعرض أبو بكر عن كل هذه المبررات، ولم يفكر إلا في الذنب الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لإخوته سلمان وصهيب وبلال، وقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟
يخاف من الذنب؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه صفحته بيضاء تمام فذهب بسرعة حتى يتجنب هذا الذنب الذي وقع منه، أو احتمال الذنب الذي وقع منه وقال لهم: يا إخوتاه أغضبتكم؟
فرد أحدهم عليه، وقال: لا.
ثم قال: يغفر الله لك يا أخي.
فالشاهد من القصة أن أبا بكر الصديق كان عنده من المبررات الكافية، والتي تحسن صورته، وتجمل هيئته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام الثلاثة الضعفاء، وأمام المجتمع المسلم بكامله، ولكنه ما أراد كل ذلك، كل ما يريده أن يتوب من الذنب بعد أن وضح له أنه ذنب لا بد وأن يتوب منه.
توبة أسامة بن زيد
موقف آخر لأحد الصحابة يوضح عدم المجادلة، وتقديم المبررات، ولكنه كان يسرع للتوبة، أسامة بن زيد رضي الله عنهما له موقف مشهور كلنا نعرفه جاء في البخاري ومسلم وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنها يقول:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجل.
وفي رواية:
كان منهم رجل أقبل القوم، فكان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم. فسيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما يصف أحد الرجال في جيش المشركين هذا الرجل لما يهجم المشركون على جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس ضراوة على المسلمين، وعندما يتقهقر الجيش الكافر يكون من أشد الناس حماية لجيش الكفار، يقول أسامة:
فغشيته أنا ورجل من الأنصار، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله.
وانظر إلى الموقف، فسيدنا أسامة بن زيد، يجري وراءه من أول القتال حتى أمسكه، ووضعه أمامه حتى يقتله، والمشرك حتى هذه اللحظة كان شديدا جدا على المسلمين، وقتل عددا من المسلمين بالفعل، يقول أسامة فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف عنه الأنصاري. وخاف الأنصاري أن يقتله عندما سمع كلمة لا إله إلا الله، وقتله أسامة بن زيد، قتل الرجل، يقول أسامة:
فوقع في نفسي من ذلك، فقلته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَتَلْتَهُ".
فقال أسامة: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ.
يقول المبرر الحقيقي الذي عنده، وفي رواية: يا رسول الله، أوجع في المسلمين، وقتل فلان، وفلان- وسمى له نفرا- وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟"
فماذا كان رد فعل أسامة بن زيد؟
إنه لم يكرر التبرير، وقال أسامة مباشرة: يا رسول الله، استغفر لي.
لا مكان للجدل، ولا مناقشات، ولا محاورات، وأدرك الخطأ الفادح الذي وقع فيه حتى قال: حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
أي: ياليتني أسلمت اليوم، ولم يكن في صحيفتي هذه الجريمة الكبرى، وندم على ما فعل.
وموقف آخر لأسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه عندما ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع في المخزومية التي سرقت، ونحن نعلم مكانة بني مخزوم، فهي قبيلة قوية شديدة كبيرة، فلما ذهب رضي الله عنه وأرضاه يشفع في المخزومية حتى لا تقطع يدها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غاضب: "أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ".
هل رد عليه أسامة رضي الله عنه وأرضاه وقال له إن عائلتها كبيرة وسوف تحدث مشاكل في المجتمع المسلم وهذه أول مرة؟
إن كل الكلام لم يفكر فيه، وإنما قال: استغفر لي يا رسول الله.
لأنه أدرك أنه قد أخطأ، فلا جدال، ولا محاورات، ولا مناقشات، لا بد أن نتعلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت المستفيد عندما يوجه لك اللوم، لأنك سوف تتوب من الذنب، وأنت الذي كنت سوف تحاسب عليه، ولتحمد الله سبحانه وتعالى أنه يسر لك إنسانا ينصحك في الله، نريد أن نوسع صدرنا لقبول النصيحة.
فهذه كانت السمة الثانية من سمات الصحابة في توبتهم أنهم كانوا لا يجادلون، ولا يبررون ذنوبهم إذا أوضح لهم أحد الناس أنها قد أخطئوا، ويسارعون في توبتهم.
- تعظيم الذنب ولو كان صغيرا
السمة الثالثة سمة على قدر كبير من الأهمية أيضا، وهي تعظيم الذنب، ولو صغيرا، وهو عكس ما يفعله كثير من الناس، فمعظم الناس يُهَوّن الذنب مهما عظم، لكن الصحابة كانوا يعظمون الذنب مهما صغر، انظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يقول كما جاء في صحيح البخاري: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه جالس تحت جبل يخاف أن يقع عليه.
المؤمن يتخيل الذنب كالجبل كأن الجبل سيقع.
وإن الفاجر يرى ذنوبه، كالذباب مَرّ على أنفه، فقال به هكذا. وأشار بيده فوق أنفه.
أي قد أذهب الذباب بيده، وهذا يدل على الاستهانة بالذنب.
وانظر إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، وأرضاه كيف كان مفهومه عن الذنب؟
قال أيضا في صحيح البخاري: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر.
أي أنتم ترونها شيئا بسيطا جدا، أدق من الشعر.
وإنا كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات المهلكات. أمر ضخم جدا، وفرق واضح هائل بين جيل الصحابة، والجيل الذي لحق كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، أنهم كانوا يفرقون بين عظم الذنب، وصغره بحسب قوة الإيمان، فما بالكم بالأجيال التي تلت كلام أنس بن مالك، هذا للجيل الذي تلا جيل رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
لا وصول إلى ما وصلوا إليه إلا بالتوبة من كل ذنب مهما صغر، وكان بلال بن سعد رحمه الله كان يقول:
لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
أنت عصيت الله عز وجل، انظر إلى عظم من عصيت، انظر إلى عظمة من عصيت.
وقد رأينا موقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه من ربيعة بن كعب رضي الله عنه عندما قال في حقه كلمة شعر، أنه قد أغضبه بها، يعني الصديق أغضب ربيعة بن كعب بكلمة بسيطة، فطلب منه الصديق أن يردها عليه، و الصديق في ذلك الوقت كان وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم، الوزير الأول له والساعد الأيمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وربيعة بن كعب خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى الفارق بين الاثنين، ولكن سيدنا أبا بكر أحس أنه ارتكب جريمة ضخمة جدا لدرجة أنه يطلب من خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد الكلمة على وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى عليه ربيعة؛ لأنه تربى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفض أن يسب، أو يشتم، أو يقول كلمة فيها نوع من الخطأ، أو نوع من التعدي على الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فذهب أبو بكر يشتكي ربيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: إن ربيعة لا يريد أن يرد الكلمة.
يطلب منه أن يأمر ربيعة أن يرد الكلمة كنوع من القصاص، لكن سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر ربيعة على رفضه، ألا يرد الكلمة على أبي بكر، وقال له:
قُلْ لَهْ: "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ".
فقال ربيعة: يغفر الله لك يا أبا بكر.
فولى أبو بكر يبكي، إحساسا أنه لم يكفر عن الذنب الذي عمله، حساسية مفرطة لأي ذنب مهما صغر.
روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه وفطرحه؛ لأن الذهب محرم على الرجال، وقال صلى الله عليه وسلم: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ".
فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به.
فقال الرجل: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليس بذنب كبير، ليس من الكبائر، والرجل قد يكون جاهلا بالموقف، والرجل قد يأخذه ليبيعه، أو يعطيه لزوجته، أو يدخره للزمن، ولكن إحساس الرجل بعظم الذنب جعله يزهد في الخاتم، وحجة الصحابة في هذا الإحساس المفرط بقضية الذنب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أرضاه قال:
قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ".
فالخوف من الذنب، وإن كان صغيرا من سمات توبة الصحابة رضوان الله عليهم.
اتباع السيئة بالأعمال الصالحة
السمة الرابعة من سمات توبة الصحابة، هي اتباع السيئة بعمل حسن بعدها، فيبطل أثر السيئة، إلى هذا المعنى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بَخُلُقٍ حَسَنٍ".
هذه نصحية غالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي ذر، وإلى الأمة جميعا، وهذا المعنى كان واضحا جدا في حياة الصحابة، مجرد أن الإنسان يذنب يحاول أن يتبع الذنب بحسنة، حتى يعادل هذه السيئات التي تحملها بعد ارتكابه الذنب، انظر إلى الموقف الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها.
وفي رواية: أصبت منها قبلة.
يعني ارتكب معها شيئا، ولكن لا يستوجب حد الزنا، فهذا الرجل يشعر أنه فعل جريمة كبيرة جدا، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت.
فقال عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك.
لكن الرجل من داخله يريد التوبة من الذنب.
فقال عبد الله بن مسعود راوي الحديث، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ينتظر الوحي لهذه النقطة، فقام الرجل، فانطلق، وهو يتألم من الذنب الذي فعله فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه، وقال له: ارجع ثانية. وقرأ عليه هذه الآية، سبحان الله نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية تحل موقف هذا الرجل، وموقف الذين يفعلون مثله، أي ذنب من الذنوب.
وقرأ عليه قوله تعالى في سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
فقال رجل من القوم في رواية أنه معاذ بن جبل رضي الله عنه ورأضاه قال: يا نبي الله، هذا له خاصة.
قال:" بل للناس كافة".
إلى كل من يخطئ أن يسرع فيفعل من المعروف ما يستطيع، يكفر به عن الذنب الذي فعله.
موقف كعب بن مالك
انظروا إلى موقف كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عندما تاب من أمر التخلف عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، أمر ضخم جدا، لما نزلت التوبة، ومع أن التوبة مقبولة بصريح القرآن، إلا أن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال:
يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله علامة على صدق التوبة، يريد أن يتخلص من المال الذي أقعده كل المال، ولكن رسول الله قال له: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ".
فقال كعب: فإني أمسك سهمي الذي بخيمتي.
وتصدق بكل ماله، حتى يتخلص من ذنب واحد أحدثه.
وهذا أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه لكي يتوب أيضا من ذنبه الذي تحدثنا عنه في أول الفصل، قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي.
وفي رواية:
الدار التي أصبت فيها الذنب، وأساكنك.
ويترك القبيلة التي كان يعيش فيها، وهي كانت بعيدة عن المدينة المنورة، ويأتي يعيش بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، وشيء آخر:
وإني أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله.
وسوف يتبرع بكل ماله في سبيل الله، وهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الرحيم بأمته، والعارف باحتياجات الحياة، قال: "يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ".
أي قال له تبرع بثلث مالك، ودفع أبو لبابة ثلث ماله، حتى يكفر ذنبا من الذنوب، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقر مبدأ التصدق، وفعل الخير بصفه عامة لمحو السيئات.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما وقف يجادل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية، ونحن نعرف الجدال الطويل الذي دار بينه وبين الرسول في صلح الحدبية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:
ما زلت أصوم، وأتصدق، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت مخافة الكلام الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب قال: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا، وصمت دهرا.
فعل كثيرا من الطاعات حتى يكفر الذنب الذي فعله، فهذه كانت سمة هامة جدا لدى الصحابة، عندما تأتي بذنب، فلتبادر بالتصدق من مالك تحاول أن تعفو عن إنسان أساء إليك، تحاول أن تعمل نوعا من الخير بحيث أن الله سبحانه وتعالى يكفر عنك هذا الذنب.
- عدم القنوط من رحمة الله
الأمر الخامس والأخير في سمات التوبة عند الصحابة أنهم لم يكن عندهم قنوط أبدا، مهما عظم الذنب ليس هناك يأس من رحمة الله سبحانه وتعالى أبدا، حجتهم في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ، ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ".
سبحان الله، وفي رواية: "حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
ولم يذنب إنسان هذه الذنوب الكبيرة، والضخمة جدا، فكل الذنوب يتوب الله سبحانه وتعالى على الإنسان منها، ما دامت هناك توبة نصوح.
روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا، وأكثروا، وزنوا، وأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن الذي تقول، وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة.
نحن فعلنا جرائم كثيرة جدا، هل ندخل في الإسلام والله يعفو عن كل هذا؟ فنزل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمً} [الفرقان:68: 70].
كل هذه السيئات السابقة تبدلت إلى حسنات، بمجرد التوبة، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما، وقال ابن عباس: ونزل أيضا قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر:53].
روى البزار والطبراني بإسناد جيد عن أبي طويل شطب الممدود رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة- والحاجة الأمر الصغير، والداجة الأمر الكبير- فهل لذلك من توبة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟"
قال: أما أنا فأشهد ألا إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكَ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ".
وتتحول الذنوب الصغيرة، والخطايا إلى حسنات، فقال الرجل مستعجبا ومستغفرا: وزجراتي وفجراتي؟
كل الجرائم الضخمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ".
قال الرجل: الله، الله.
فما زال يكررها حتى توارى.
فالإنسان لا يقنط من رحمة الله عز وجل، جعل الله عز وجل التوبة لمن لا نتخيل أبدا أن تقبل توبتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
دعا الله عز وجل إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله عز وجل لهؤلاء: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
بعد كل هذه الجرائم الضخمة جدا يدعوهم الله عز وجل إلى التوبة، وإلى الاستغفار، دعا الله عز وجل كفار بدر إلى التوبة قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].
ودعا الله عز وجل إلى التوبة أصحاب الأخدود، تخيلوا بعد ما أحرقوا المؤمنين، فقد أحرقوا قرية بكاملها ليس لهم جريمة، إلا أن قالوا ربنا الله، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ} [البروج:10].
سبحان الله! الله عز وجل دعا إلى التوبة فرعون بعد أن قال كلمته الفاجرة: أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري.
بعد هذه السلسلة الضخمة من قتل للأطفال، والاستحياء للنساء، بعد هذا، قال الله عز وجل في حقه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
سبحان الله! إنه يأمرهم بالتودد إليه في الكلام؛ لأنه يريد أن يؤمن، ويرجع إليه سبحان وتعالى {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمً} [النساء:27].
فالصحابة ما كانوا يرون ذنبا مهما تعاظم أنه لا تصلح فيه توبة، فلا قنوط أبدا، ما دام في العبد نَفَسا يتردد، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبِدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ".
أطلقها صلى الله عليه وسلم: توبة العبد من أي ذنب، ما لم يغرغر، قبل لحظات الموت الأخيرة، أي وقت يتوب الله سبحانه وتعالى على عباده، إن أرادوا أن يتوبوا.
القول إن الصحابة كانوا بشرا يصيبون، ويخطئون، يحسنون، ويسيئون، يذنبون، ويتوبون إلى الله عز وجل، ولكن توبتهم كانت ذات طابع خاص جدا، كانوا يتوبون من قريب، لا يصرون على المعصية، لا يحبون أن يبيتو