قَالَ أَبُو عَمْرو : مَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّاحِر يَقْلِب الْحَيَوَان مِنْ صُورَة إِلَى صُورَة ,
فَيَجْعَل الْإِنْسَان حِمَارًا أَوْ نَحْوه , وَيَقْدِر عَلَى نَقْل الْأَجْسَاد وَهَلَاكهَا وَتَبْدِيلهَا ,
فَهَذَا يَرَى قَتْل السَّاحِر لِأَنَّهُ كَافِر بِالْأَنْبِيَاءِ , يَدَّعِي مِثْل آيَاتهمْ وَمُعْجِزَاتهمْ ,
وَلَا يَتَهَيَّأ مَعَ هَذَا عِلْم صِحَّة النُّبُوَّة إِذْ قَدْ يَحْصُل مِثْلهَا بِالْحِيلَةِ .
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْر خُدَع وَمَخَارِيق وَتَمْوِيهَات وَتَخْيِيلَات فَلَمْ يَجِب عَلَى أَصْله قَتْل السَّاحِر ,
إِلَّا أَنْ يَقْتُل بِفِعْلِهِ أَحَدًا فَيُقْتَل بِهِ .
ذَهَبَ أَهْل السُّنَّة إِلَى أَنَّ السِّحْر ثَابِت وَلَهُ حَقِيقَة .
وَذَهَبَ عَامَّة الْمُعْتَزِلَة وَأَبُو إِسْحَاق الْإِسْتِرَابَاذِيّ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ السِّحْر لَا حَقِيقَة لَهُ ,
وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيه وَتَخْيِيل وَإِيهَام لِكَوْنِ الشَّيْء عَلَى غَيْر مَا هُوَ بِهِ ,
وَأَنَّهُ ضَرْب مِنْ الْخِفَّة وَالشَّعْوَذَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى :
" يُخَيَّل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرهمْ أَنَّهَا تَسْعَى " [ طَه : 66 ]
وَلَمْ يَقُلْ تَسْعَى عَلَى الْحَقِيقَة , وَلَكِنْ قَالَ " يُخَيَّل إِلَيْهِ "
. وَقَالَ أَيْضًا : " سَحَرُوا أَعْيُن النَّاس " [ الْأَعْرَاف : 116 ] .
وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّا لَا نُنْكِر أَنْ يَكُون التَّخْيِيل وَغَيْره مِنْ جُمْلَة السِّحْر ,
وَلَكِنْ ثَبَتَ وَرَاء ذَلِكَ أُمُور جَوَّزَهَا الْعَقْل وَوَرَدَ بِهَا السَّمْع ,
فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ ذِكْر السِّحْر وَتَعْلِيمه , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَة لَمْ يُمْكِن تَعْلِيمه ,
وَلَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاس , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَة .
وَقَوْله تَعَالَى فِي قِصَّة سَحَرَة فِرْعَوْن : " وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم " وَسُورَة " الْفَلَق " ,
مَعَ اِتِّفَاق الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ سَبَب نُزُولهَا مَا كَانَ مِنْ سِحْر لَبِيد بْن الْأَعْصَم ,
وَهُوَ مِمَّا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ :
سَحَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيّ مِنْ يَهُود بَنِي زُرَيْق يُقَال لَهُ لَبِيد بْن الْأَعْصَم ,
الْحَدِيث . وَفِيهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا حُلَّ السِّحْر :
" إِنَّ اللَّه شَفَانِي " . وَالشِّفَاء إِنَّمَا يَكُون بِرَفْعِ الْعِلَّة وَزَوَال الْمَرَض ,
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقًّا وَحَقِيقَة , فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله عَلَى وُجُوده وَوُقُوعه .
وَعَلَى هَذَا أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد الَّذِينَ يَنْعَقِد بِهِمْ الْإِجْمَاع ,
وَلَا عِبْرَة مَعَ اِتِّفَاقهمْ بِحُثَالَةِ الْمُعْتَزِلَة وَمُخَالَفَتهمْ أَهْل الْحَقّ .
وَلَقَدْ شَاعَ السِّحْر وَذَاعَ فِي سَابِق الزَّمَان وَتَكَلَّمَ النَّاس فِيهِ ,
وَلَمْ يَبْدُ مِنْ الصَّحَابَة وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ إِنْكَار لِأَصْلِهِ .
وَرَوَى سُفْيَان عَنْ أَبِي الْأَعْوَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :
عِلْم السِّحْر فِي قَرْيَة مِنْ قُرَى مِصْر يُقَال لَهَا : "
الْفَرَمَا " فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَهُوَ كَافِر , مُكَذِّب لِلَّهِ وَرَسُوله , مُنْكِر لِمَا عُلِمَ مُشَاهَدَة وَعِيَانًا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُنْكَر أَنْ يَظْهَر عَلَى يَد السَّاحِر خَرْق الْعَادَات
مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُور الْبَشَر مِنْ مَرَض وَتَفْرِيق وَزَوَال عَقْل وَتَعْوِيج عُضْو إِلَى غَيْر ذَلِكَ
مِمَّا قَامَ الدَّلِيل عَلَى اِسْتِحَالَة كَوْنه مِنْ مَقْدُورَات الْعِبَاد . قَالُوا :
وَلَا يَبْعُد فِي السِّحْر أَنْ يُسْتَدَقّ جِسْم السَّاحِر حَتَّى يَتَوَلَّج فِي الْكُوَّات وَالْخَوْخَات
وَالِانْتِصَاب عَلَى رَأْس قَصَبَة , وَالْجَرْي عَلَى خَيْط مُسْتَدَقّ ,
وَالطَّيَرَان فِي الْهَوَاء وَالْمَشْي عَلَى الْمَاء وَرُكُوب كَلْب وَغَيْر ذَلِكَ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُون السِّحْر مُوجِبًا لِذَلِكَ , وَلَا عِلَّة لِوُقُوعِهِ وَلَا سَبَبًا مُوَلَّدًا ,
وَلَا يَكُون السَّاحِر مُسْتَقِلًّا بِهِ , وَإِنَّمَا يَخْلُق اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاء وَيُحْدِثهَا عِنْد وُجُود السِّحْر ,
كَمَا يَخْلُق الشِّبَع عِنْد الْأَكْل , وَالرِّيّ عِنْد شُرْب الْمَاء .
رَوَى سُفْيَان عَنْ عَمَّار الذَّهَبِيّ أَنَّ سَاحِرًا كَانَ عِنْد الْوَلِيد بْن عُقْبَة يَمْشِي عَلَى الْحَبْل ,
وَيَدْخُل فِي اِسْت الْحِمَار وَيَخ*ج مِنْ فِيهِ , فَاشْتَمَلَ لَهُ جُنْدُب عَلَى السَّيْف فَقَتَلَهُ جُنْدُب -
هَذَا هُوَ جُنْدُب بْن كَعْب الْأَزْدِيّ وَيُقَال الْبَجَلِيّ -
وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَقّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( يَكُون فِي أُمَّتِي رَجُل يُقَال لَهُ جُنْدُب يَضْرِب ضَرْبَة بِالسَّيْفِ يُفَرِّق بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل ) .
فَكَانُوا يَرَوْنَهُ جُنْدُبًا هَذَا قَاتِل السَّاحِر . قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ : رَوَى عَنْهُ حَارِثَة بْن مُضَرِّب .
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْر مَا يَفْعَل اللَّه
عِنْده إِنْزَال الْجَرَاد وَالْقُمَّل وَالضَّفَادِع وَفَلْق الْبَحْر وَقَلْب الْعَصَا وَإِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِنْطَاق الْعَجْمَاء ,
وَأَمْثَال ذَلِكَ مِنْ عَظِيم آيَات الرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَام .
فَهَذَا وَنَحْوه مِمَّا يَجِب الْقَطْع بِأَنَّهُ لَا يَكُون وَلَا يَفْعَلهُ اللَّه عِنْد إِرَادَة السَّاحِر .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الطَّيِّب : وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ .
فِي الْفَرْق بَيْن السِّحْر وَالْمُعْجِزَة , قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
السِّحْر يُوجَد مِنْ السَّاحِر وَغَيْره , وَقَدْ يَكُون جَمَاعَة يَعْرِفُونَهُ وَيُمْكِنهُمْ الْإِتْيَان بِهِ فِي وَقْت وَاحِد .
وَالْمُعْجِزَة لَا يُمَكِّن اللَّه أَحَدًا أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِهَا وَبِمُعَارَضَتِهَا ,
ثُمَّ السَّاحِر لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّة فَاَلَّذِي يَصْدُر مِنْهُ مُتَمَيِّز عَنْ الْمُعْجِزَة ,
فَإِنَّ الْمُعْجِزَة شَرْطهَا اِقْتِرَان دَعْوَى النُّبُوَّة وَالتَّحَدِّي بِهَا ,
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي حُكْم السَّاحِر الْمُسْلِم وَالذِّمِّيّ ,
فَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّ الْمُسْلِم إِذَا سَحَرَ بِنَفْسِهِ بِكَلَامٍ يَكُون كُفْرًا يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب وَلَا تُقْبَل تَوْبَته ;
لِأَنَّهُ أَمْر يَسْتَسِرّ بِهِ كَالزِّنْدِيقِ وَالزَّانِي ;
وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى السِّحْر كُفْرًا بِقَوْلِهِ : "
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلَا تَكْفُر "
وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة .
وَرُوِيَ قَتْل السَّاحِر عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عُمَر وَحَفْصَة وَأَبِي مُوسَى
وَقَيْس بْن سَعْد وَعَنْ سَبْعَة مِنْ التَّابِعِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَدّ السَّاحِر ضَرْبه بِالسَّيْفِ )
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , اِنْفَرَدَ بِهِ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهمْ ,
رَوَاهُ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم عَنْ الْحَسَن مُرْسَلًا ,
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ عَنْ جُنْدُب قَالَ اِبْن الْمُنْذِر :
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا بَاعَتْ سَاحِرَة كَانَتْ سَحَرَتْهَا وَجَعَلَتْ ثَمَنهَا فِي الرِّقَاب .
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُل أَنَّهُ سَحَرَ بِكَلَامٍ يَكُون كُفْرًا وَجَبَ قَتْله إِنْ لَمْ يَتُبْ ,
وَكَذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَة وَوَصَفَتْ الْبَيِّنَة كَلَامًا يَكُون كُفْرًا .
وَإِنْ كَانَ الْكَلَام الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ سَحَرَ بِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَمْ يَجُزْ قَتْله ,
فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي الْمَسْحُور جِنَايَة تُوجِب الْقِصَاص اُقْتُصَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَمَدَ ذَلِكَ ,
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِصَاص فِيهِ فَفِيهِ دِيَة ذَلِكَ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر